Saturday, November 28, 2015

اللهم اجْعَلْه هادياً مَهْدياً، واهْدِ به".

لحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَر معاويةَ رضي الله عنه،

 فقال: "

اللهم اجْعَلْه هادياً مَهْدياً، واهْدِ به".


وهذا تخريجه:

فقد رواه البخاري في التاريخ (5/240) والترمذي (3842) وابن سعد (7/418) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/358 رقم 1129) والبغوي في معجم الصحابة (4/491) والترقفي في جزئه (45/أ) والطبراني في مسند الشاميين (1/190) والآجري في الشريعة (5/2436-2438 أرقام 1914-1917) وابن بطة في الإبانة وابن منده واللالكائي (8/1441 رقم 2778) وأبونعيم في الصحابة (4/1836 رقم 4634) والخطيب في تاريخه (1/207) وفي تلخيص المتشابه (1/406) وفي تالي تلخيص المتشابه (2/539) والجورقاني في الأباطيل (1/193) وابن عساكر (6/62 و59/81-82) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/274 رقم 442) وابن الأثير في أسد الغابة (3/313 و4/386) والذهبي في السير (8/34) من طريق أبي مُسهر.
ورواه البخاري في التاريخ (7/327) وابن أبي عاصم (2/358) والبغوي (4/490) وأبوالشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (2/343) وأبونعيم في أخبار أصبهان (1/180) وابن عساكر (59/80-81) والمزي في تهذيب الكمال (17/322) من طريق مروان بن محمد الطاطري.
ورواه ابن قانع (2/146) والخلال في السنة (2/450 رقم 697) وابن عساكر (59/83) من طريق عمر بن عبد الواحد. (وفي حديثه قصة)
ورواه ابن عساكر (59/83) من طريق محمد بن سليمان الحراني.
أربعتهم عن سعيد بن عبد العزيز، نا ربيعة بن يزيد، نا عبد الرحمن بن أبي عَمِيرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر معاوية، وقال: "اللهم اجعله هاديا مهديا، واهد به"
ووقع التصريح بالسماع في جميع طبقات الإسناد، وسنده صحيح، ورجاله ثقات أثبات، وهو إلى صحابيّه عبد الرحمن على شرط مسلم، فقد احتج برواية أبي مُسهر، عن سعيد، عن ربيعة.

ورواه الوليد بن مسلم عن سعيد، واختلف عليه، فرواه أحمد (4/216) ومن طريقه ابن عساكر (59/83) عن علي بن بَحر، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد، كما رواه الجماعة آنفا.
ورواه ابن عساكر (6/62) من طريق محمد بن جرير الطبري، نا أحمد بن الوليد، نا هشام بن عمار وصفوان بن صالح، قالا: نا الوليد بن مسلم، نا سعيد به، كرواية الجماعة.
ورواه ابن عساكر (59/81) من طريق الساجي، نا صفوان، نا الوليد بن مسلم ومروان بن محمد به مثله.

ولكن رواه الخلال في السنة (2/451 رقم 699) وابن قانع (2/146) والطبراني في الأوسط (660) وأبونعيم في الحلية (8/358) وقوام السنة الأصبهاني في الحجة (2/404) من طريق زيد بن أبي الزرقاء (ح)
ورواه الطبراني في مسند الشاميين (1/181 و3/254) وأبونعيم في الحلية (8/358) ومن طريقهما ابن عساكر (59/83) والذهبي في السير (8/34) من طريق علي بن سهل، كلاهما عن الوليد بن مسلم، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن عميرة.
وقد وهم في الرواية الأخرى الوليد، وأشار لذلك أبوحاتم في العلل (2/363) وقال ابن عساكر إن رواية الجماعة هي الصواب (59/84)
ومما يؤكد ذلك أن الوليد مدلس، وقد عنعن في الرواية الثانية الخطأ، ولمّا صرّح بالتحديث كانت روايته (وهي الأولى) على الصواب، فضلا أن أبا مسهر لوحده أتقن منه، فكيف ومعه غيره من الثقات؟

اختلاف آخر: روى الحديث ابن عساكر (59/80) من طريق محمد بن مصفى، نا مروان بن محمد، حدثني سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة مرفوعا.
قلت: ومحمد بن مصفى له أوهام ومناكير على صدقه، وأبطل ابنُ عساكر زيادة "أبي إدريس" في السند فقال: "كذا رُوي عن محمد بن المصفى عن مروان، ورواه سلمة بن شبيب، وعيسى بن هلال البلخي، وأبوالأزهر، وصفوان بن صالح؛ عن مروان، ولم يذكروا أبا إدريس في إسناده، وكذلك رواه أبومسهر، وعمر بن عبد الواحد، ومحمد بن سليمان الحراني، والوليد بن مسلم؛ عن سعيد".

اختلاف آخر: ذكر ابن حجر في الإصابة (6/309) أن ابن شاهين أخرجه من طريق محمود بن خالد، عن الوليد بن مسلم، وعمر بن عبد الواحد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة به.
وعلقه الذهبي عن أبي بكر بن أبي داود (وهو من شيوخ ابن شاهين): حدثنا محمود به. (السير 3/126)
قلت: وهذا خطأ دون شك، وقد رواه الخلال عن يعقوب بن سفيان، ورواه ابن قانع عن إسحاق بن إبراهيم الأنماطي، ورواه ابن عساكر من طريق أحمد بن المعلى، ثلاثتهم عن محمود بن خالد، عن عمر بن عبد الواحد، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة.
وقد تقدم تصويبُ أبي حاتم وابن عساكر لرواية الجماعة. 

وبعد أن صوّب ابن عساكر رواية الجماعة بدأ يسرد الطرق الغريبة وينقدها، فقال (59/84): "وقد رواه المهلب بن عثمان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن فأرسله، ولم يذكر يونس ولا ربيعة، ووهم فيه"، ثم أسند الطريق.
قلت: المهلب كذاب. (لسان الميزان 6/108)

ورواه البغوي في معجم الصحابة (5/367) وابن بطة في الإبانة وابن عساكر (59/86) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/274) من طريق الوليد بن سليمان، عن عمر بن الخطاب مرفوعا به.
وقال ابن عساكر: "الوليد بن سليمان لم يدرك عمر"، وقال الذهبي في السير: "هذا منقطع". (3/126)، وقال ابن كثير: "وهذا منقطعٌ، يُقَوِّيه ما قَبلُه". (التاريخ 11/409)

ورواه الطبراني في الشاميين (3/254) -ومن طريقه ابن عساكر (59/84)- من حديث موسى بن محمد البلقاوي، ثنا خالد بن يزيد بن صبيح المري، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن عميرة به.
وفي هذا السند موسى البلقاوي، وهو متروك متهم بالكذب.

وروى الحديث البخاري في التاريخ (7/328) والترمذي (3843) والرافعي في التدوين (3/455) من حديث عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني، عن عمير بن سعد به مع قصة.
وقال الترمذي: "حديث غريب، وعمرو بن واقد يُضَعَّف"، قلت: هو متروك الحديث.
ورواه ابن عساكر (59/84-85) من وجهين آخرين فيهما عمرو بن واقد أيضا، وفيهما اختلاف، وحكم ابن عساكر أنهما خطأ.

وفي الباب حديث واثلة عند السقطي في الفضائل (19) وابن عساكر (59/74) وابن الجوزي في الموضوعات (2/19)، وحديث أبي هريرة عند السقطي (22) وابن عساكر (59/88) بمعنى محل الشاهد، وسندهما تالف، وفيهما زيادات منكرة.

أقوال الحفاظ في الحديث:
1) من صحح الحديث:
قال الترمذي بعد إخراجه الوجهَ المحفوظ: "حديث حسن غريب".
وقال الجورقاني: "هذا حديث حسن".
وقال الذهبي في تلخيص العلل المتناهية (رقم 225) -بعد أن بيّن وهم ابن الجوزي في إعلاله الحديث براويَين ثقتين حَسبَهُما ضعيفين لتشابه الاسم: "وهذا سند قوي".
وقال ابن كثير في تاريخه (11/408 ط. التركي): "قال ابن عساكر: وقول الجماعة هو الصواب.
وقد اعتنى ابنُ عساكر بهذا الحديث، وأطنبَ فيه وأطيبَ وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم من موطن قد برَّز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد".
وقال ابن كثير بعد ذلك (11/409-410): "ثم ساق ابنُ عساكر أحاديث كثيرة موضوعة بلا شك في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحا، واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات، عما سواها من الموضوعات والمنكرات.
قال ابن عساكر: وأصح ما رُوي في فضل معاوية حديث أبي حمزة عن ابن عباس أنه كاتِبُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، أخرجه مسلم في صحيحه، وبعده حديث العرباض: اللهم علمه الكتاب، وبعد حديث ابن أبي عَميرة: اللهم اجعله هاديا مهديا".
انتهى كلام ابن كثير بطوله، وكلامُ ابن عساكر هو في تاريخه (59/106)، قاله عقب إيراده ما رُوي عن ابن راهويه أنه لا يصح حديث في فضل معاوية، فهو تعقب منه لهذا الكلام الذي لم يثبت عن إسحاق أصلا كما بيّنتُ قبل.
وقد نقل كلام ابن عساكر في التصحيح مُقرّا: الفتني في التذكرة (ص100)
وقال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (2/626): "إن الحديث حسن".
وقال الآلوسي في صب العذاب (ص427): "إن لهذا الحديث شواهد كثيرة تؤكد صحته".
وأورده الإمام الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (4/615 رقم 1969)، وقال: "رجاله ثقات رجال مسلم، فكان حقه أن يُصحح". وقال بعد أن توسع فيه (4/618): "وبالجملة فالحديث صحيح، وهذه الطرق تزيدُه قوة على قوة".

2) من تكلم في الحديث:
قال أبوحاتم: إن عبد الرحمن لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم. (العلل 2601)
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (6/67): "منهم من يوقف حديثه هذا ولا يرفعه، ولا يصح مرفوعا عندهم".. ثم قال عن عبد الرحمن بن أبي عميرة: "لا تثبت صحبته، ولا تصح أحاديثه".
وتبعه ناقلا عبارته ابن الأثير في أسد الغابة (3/313)
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/275) بعد أن ساق الحديث من طريق الوليد بن سليمان، وطريق أبي مسهر: "هذان الحديثان لا يصحان، مدارهما على محمد بن إسحاق بن حرب اللؤلؤي البلخي، ولم يكن ثقة".. ثم أطال في بيان ضعف البلخي، ثم أورد طريقا أخرى لأبي مسهر، وأعله بإسماعيل بن محمد، وقال إن الدارقطني كذّبه.
وقال ابن حجر في الإصابة (6/309): "إن الحديث ليس له علة إلا الاضطراب، فإن رواته ثقات".
قلت: وأعلّه بعض المُحْدَثين بتغيّر سعيد بن عبد العزيز.

مناقشة الحكم على الحديث:
تقدم في التخريج أن الحديث رُوي عن خمسة من الصحابة: عبد الرحمن بن أبي عَمِيرة، وعمر بن الخطاب، وعمير بن سعد، وواثلة، وأبي هريرة، فأما الأحاديث الثلاثة الأخبرة فواهيةٌ لا تدخل في الاعتبار، وأما حديث عمر ففيه انقطاع، وقوّاه ابن كثير بحديث عبد الرحمن بن أبي عميرة، وأما حديث عبد الرحمن فقد اختُلف فيه، وصوّب أبوحاتم وابن عساكر وغيرُهما رواية الجماعة عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن مرفوعا.
واتفاقُ من رجّح -وحسبُك منهم بأبي حاتم- بين أوجه الحديث على أن الصواب فيه رواية أبي مُسْهِر ومَن تابعه يقضي على دعوى إعلال الحديث بالاضطراب، فهذا الاختلاف غير قادح، وإنما يقدح الاضطراب لو تعذر الترجيح وتساوت أوجه الخلاف، وهذا مُنتَفٍ هنا، فالتخريج لوحده كافٍ لتبيين الرواية الراجحة، كيف وقد نصّ على تصويبها الحفاظ؟
فبهذا يجاب عن كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله.
أما ابن عبد البر رحمه الله فقد أعل الحديث بما لم يُسبق إليه فيما اطلعت، فذكر أن من الرواة من أوقف الحديث، وهذا لم أجده رغم التوسع، ولم أر من ذَكره!
وذكر أن الحديث لا يصح مرفوعا عند أهل الحديث، وهذا لم أجده، ولم أر من ذكره! بل صنيعُ الترمذي يردّه.
وذكر أن عبد الرحمن لا تثبت صحبته، وقد خالف بذلك كلَّ من وقفتُ عليه قَبل ابن عبد البر، وفيهم كبار الحفاظ كما سيأتي.
وقد قال ابن حجر: "وجدنا له في الاستيعاب أوهاما كثيرة، تتبع بعضها الحافظ ابن فتحون في مجلدة". (الأربعون المتباينة 22)
وأما ابن الأثير فناقلٌ عن ابن عبد البر وتابع له.
وأما إعلال ابن الجوزي للحديث فمن أعجب ما رأيت، فقد أخطأ أخطاء مركبة في تضعيفه، فذكر أن مدار الحديث على محمد بن إسحاق البلخي، وهو ليس بثقة، فرد عليه الذهبي في تلخيص العلل المتناهية (225): "وهذا جهل منه، فإنما محمد بن إسحاق هنا هو أبوبكر الصاغاني، ثقة"، ثم أبطل الذهبي نسبة التفرد له، وهذا واضح في سياق طرق الحديث.
ثم قال ابن الجوزي إن في سنده الآخر إسماعيل بن محمد، وقد كذّبه الدارقطني، فرد عليه الذهبي: "وهذه بليّة أخرى! فإن إسماعيل هنا هو الصفار، ثقة، والذي كذبه الدارقطني هو المزني، يروي عن أبي نعيم".
قلت: فأما إعلال بعض المتأخرين بتغيّر سعيد بن عبد العزيز فغير سديد، إذ لم يُعِلَّ الحديث بهذا أحدٌ من الحفاظ، بل لا تجد مِن مُتقدِّميهم أحدا يُعل باختلاط سعيد أصلا، فهو أثبتُ الشاميين وأصحُّهم حديثا؛ كما قال الإمام أحمد وغيرُه، وما غمز فيه أحد، بل ساووه بالإمام مالك، وقدّموه على الأوزاعي، واحتج بروايته الشيخان وغيرُهما مطلقا، وقضيةُ اختلاطه أخذها مَن أخذها مِن قول تلميذه أبي مُسْهِر، فقد قال: "كان سعيد بن عبد العزيز قد اختلط قبل موته، وكان يُعرض عليه قبل أن يموت، وكان يقول: لا أجيزها". (تاريخ ابن معين رواية الدوري 5377)
وقد سألتُ شيخي المحدّث العلامة عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله في منزله بدمشق سنة 1417 عن قول أبي مُسهر بتمامه: هل يُعَلُّ مع هذا النص باختلاط سعيد؟ فقال: لا.
فظهر أن القصة التي فيها ذكْرُ اختلاط سعيد؛ فيها أيضا امتناعُه عن التحديث حالَه، فلم يضر اختلاطُه روايتَه، فمَن أخذَ أولَ القصة وتَرَكَ آخرها فقد حاد عن النهج العلمي.
ثم هَب أن سعيد قد اختلط وحدّث، فمَن رواه عنه (وهو أبومسهر) عالمٌ بالحديث يَقظٌ متثبّت، بل أثبت الشاميين في زمانه عموما، وأثبتهم في سعيد خصوصا، وكان سعيد يقدّمُه ويخصُّه، وقد رفع من أمره وإتقانه جدا الإمامان أحمد وابن معين، ولا سيما الثاني. (انظر ترجمته موسعة في تاريخ دمشق 33/421 وتهذيب الكمال 16/369)
وأبومسهر عالم باختلاط شيخه، بل إن كشفَه لاختلاط شيخه من تثبّته، فيَبعُد أن يأخذَ عن شيخه ما يُحْذَرُ منه. (وانظر الصحيحة 7/690)
وفوق ذلك قال الإمام الألباني رحمه الله (الصحيحة 4/616) بعد أن ذكر متابعة أربعة من الثقات لأبي مُسهر: "فهذه خمسة طرق عن سعيد بن عبد العزيز، وكلهم من ثقات الشاميين، ويبعد عادة أن يكونوا جميعا سمعوه منه بعد الاختلاط، وكأنه لذلك لم يُعله الحافظ بالاختلاط".
بقي قولُ أبي حاتم إن عبد الرحمن لم يسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر في صحة الحديث، لأن أبا حاتم نفسه قد نص على صُحبة ابن أبي عَميرة كما في الإصابة (6/308)، وكما قال ابنُه عبد الرحمن (الجرح والتعديل 5/273)، فغاية ما هنالك أن تكون روايته من مراسيل الصحابة، وهي مقبولة محتج بها عند أهل العلم، وأمثلتها كثيرة.
وربما كان كلام أبي حاتم منصبا على قول عبد الرحمن: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم"، فيحكم أبوحاتم أن اللفظة غير محفوظة (قارن بصنيع البخاري في التاريخ 5/240)، فربما أخذ الحديث عن صحابي آخر، وهذا لا يؤثر في صحة الحديث، كما يقع في روايات بعض الصحابة رضي الله عنهم جميعا مثل الحسن والحسين وابن عباس لأحاديث لم يُدركوها، وهذه لا تجد أحدا من أهل العلم والفهم يدفعُ صحتَها بدعوى عدم سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم.
علما بأنه وقع سماع عبد الرحمن بن أبي عَميرة في هذا الحديث في كثير من مصادره، وفي بعضها التصريح من الراوي عنه بأن عبد الرحمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة القول أن العلة التي ذكرها أبوحاتم أراها من النوع المسمى: العلة غير القادحة، على أنني أستفيد من كلامه أنْ لو كانت هناك علة للحديث سوى ما قاله لذكرها.

فتبيّن مما سبق أن سائر ما أُعلّ به الحديث ليس بقادح، وأن المحفوظ منه صحيح السند، ورجاله ثقات أثبات، وثبّته جمع من الحفاظ، فالحُكْمُ لهم، والله تعالى أعلم.

تتمة القول في صُحبة عبد الرحمن بن أبي عَميرة:
ذكَره في الصحابة: ربيعة بن يزيد، وابنُ سعد، ودُحيم، وسليمان بن عبد الحميد البهراني، وأحمد، والبخاري، وبقي بن مخلد (مقدمة مُسنده رقم 355)، والترمذي (تسمية الصحابة رقم 388)، وأبوحاتم، وابن السكن (الإصابة)، وابن أبي عاصم، ويعقوب بن سفيان في المعرفة (1/287 وانظر 1/238)، وأبوالقاسم البغوي في معجم الصحابة (4/489)، وابن أبي حاتم (الجرح 5/273)، وابن حبان في الثقات (3/252)، وأبوبكر بن البرقي في كتاب الصحابة، وأبوالحسن بن سميع في الطبقة الأولى من الصحابة، وأبوبكر عبد الصمد بن سعيد الحمصي في تسمية من نزل حمص من الصحابة، وابن منده، وأبونعيم، والخطيب في تالي تلخيص المتشابه (2/539)، وابن عساكر، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/407)، والمِزّي، والذهبي في تاريخ الإسلام (4/309)، وفي التجريد (1/353)، وغيرهم.
ولم يخالف في ذلك إلا ابنُ عبد البر ومن تابعه بعده؛ كابن الأثير.
ورَدّ على ابن عبد البر وصحّح صُحبة عبد الرحمن: ابنُ فتحون، وابن حجر في الإصابة (6/309)
وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر (35/231) والإنابة لمغلطاي (2/24) والإصابة (6/308)

ومما يتصل بترجمة عبد الرحمن بن أبي عَميرة رضي الله عنه:
اختُلف في اسم عبد الرحمن ونسبته، وصوّب أبوحاتم في العلل؛ وغيرُه أن اسمه عبد الرحمن بن أبي عَمِيرة، وضَبَطه ابن ماكولا في الإكمال (6/276 و279) بفتح العين، وكسر الميم، وأوسعُ من ترجم له -فيما رأيت- ابنُ عساكر في تاريخه (35/231)، وصوّب أنه مُزني، وتبعه المزي وغيره.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد زياد بن عمر التكلة، الرياض 14/11/1425

عمر بن الخطاب ومعاوية وأبوبكر , التمهيد لدولة أمية

عمر بن الخطاب ومعاوية وأبوبكر , التمهيد لدولة أمية




عمر يهيأ معاوية بن أبي سفيان لترسيخ أسس مملكة بني أمية
أشتهر عمر بشدته وقسوته على الناس وعلى ولاته وشواهد التاريخ لاتحصى عرفها القاصي والداني .بعد موت أبي عبيدة ومعاذ صار معاوية بن أبي سفيان ابن عمر المدلل , فكان لاينهره ولايأمره ولاينهاه , وكانت معاملة  الخليفة عمر لمعاوية تختلف أختلافا كبيرا عن معاملة باقي ولاته وللصحابة الاخرين كما فيما يلي:
(ذُكر معاوية عند عمر بن الخطّاب فقال دعوا فتي قريش وابن سيّدها ; إنّه لمن يضحك فى الغضب ، ولا ينال منه إلاّ علي الرضا ، ومن لا يؤخذ من فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه) ( البداية والنهاية لابن كثير المدشقي ج8 ص 124) . إن عمر طلب مرارا من النبي (ص) أن يقتل أبوسفيان ولو غدراً ,لكنه الان يسميه سيد قريش ويسمي معاوية ابن سيد قريش, ونرجح أن سبب تصرف عمر مع معاوية باللين والتبجيل يعود الى عقدة عمر بن الخطاب الطبقية , فقد مر ذكر نسبه وأصله وضآلة عشيرته في قريش حينما كان أبوسفيان سيد مكة وغنيها, فلم يستطع عمر كسر تلك العقدة مع أبي سفيان أو مع ابنه معاوية من بعده.  لقد وصل الامر بعمر أن يسمي معاوية كسرى العرب !
( قال عمر إذ دخل الشام ورأى معاوية : هذا كسرى العرب) ( الاستيعاب ج3 ترجمة معاوية, لابن عبد البر) وروى الطبري ( قال عمر بن الخطاب : تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية) ( تاريخ الطبري ج3 ص224, أحداث سنة 60)!
( خرج عمر بن الخطّاب إلي الشام ، فرأى معاوية فى موكب يتلقّاه ، وراح إليه فى موكب ، فقال له عمر : يا معاوية ! تروح فى موكب وتغدو فى مثله ، وبلغنى أنّك تصبح فى منزلك وذوو الحاجات ببابك ! قال : يا أمير المؤمنين إنّ العدوّ بها قريب منّا ولهم عيون وجواسيس ، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزّاً ، فقال له عمر : إنّ هذا لَكيد رجل لبيب أو خدعة رجل أريب) ( تاريخ الطبري ج3 ص224 أحداث سنة ستين) وفي رواية الذهبي يقول عمر لمعاوية (، فقال معاوية يا أمير المؤمنين مُرنى بما شئت أصِر إليه ، قال : ويحك ! ما ناظرتك فى أمر أعيب عليك فيه إلاّ تركتنى ما أدرى آمرك أم أنهاك!)( سير أعلام النبلاء للذهبي , ترجمة معاوية)
ويروي الذهبي  كذلك: (لمّا قدم عمر الشام ، تلقّاه معاوية فى موكب عظيم وهيئة ، فلمّا دنا منه ، قال : أنت صاحب الموكب العظيم ؟ قال : نعم . قال : مع ما بلغنى عنك من طولوقوف ذوى الحاجات ببابك ؟ قال : نعم . قال : ولِمَ تفعل ذلك ؟ قال : نحن بأرض جواسيس العدوّ بها كثير ، فيجب أن نُظهر من عزَّ السلطان ما يُرهبهم ، فإن نهيتنى انتهيت ، قال : يا معاوية ! ما أسألك عن شىء إلاّ تركتنى فى مثل رواجِب الضَّرِس .لئن كان ما قلت حقّاً , إنّه لرأى أريب ، وإن كان باطلا  فإنّه لخدعة أديب . قال : فمُرنى . قال : لا آمرك ولا أنهاك). ( سير أعلام النبلاء للذهبي, ترجمة معاوية).
تأمل قول عمر لمعاوية : لاآمرك ولا أنهاك! فكأن معاوية صار مستقلاً عن أوامر الخليفة. أستطاع معاوية بدهاءه ومكره من قهر تسلط عمر ونقول إن لعقدة النقص الطبقية دور في ذلك فكان عمر يرى أن معاوية أفضل منه لأنه ابن سيد قريش وكان معاوية حتما يشعر بذلك فاستغل تلك العقدة وفاز بتطويع عمر وتليينه.
وعن أسلم مولى عمر قال(قدم علينا معاوية، وهو أبيض نص وباص، أبض الناسوأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع إصبعه علىمتن معاوية، ثم يرفعها عن مثل الشراك، فيقولبخ بخ نحن إذا خير الناس، أن جمع لناخير الدنيا والآخرة) (البداية والنهاية ج6 ص122 لابن كثير الدمشقي)
كان عمر معاوية عشرين عاما لما صار والي الشام في عهد عمر , فسمع عمر أن الناس يقولون : ولى حدث السن , فقال عمر : (تلومونني في ولايته وأنا سمعت رسول الله يقول فيه : اللهم أجعله هاديا مهديا وأهدي به)( النص عن  نظريات الخليفتين للعلامة الطائي ونقله عن التاريخ الكبير للبخاري ج5 ص 240, طبقات ابن سعد ج7 ص 418) . هذه الرواية مروية عن عمر بن الخطاب نفسه ولاندري كيف يدعو النبي (ص) هكذا دعوة ويسمي معاوية بالهادي المهدي بينما التاريخ يحدثنا أن معاوية صار في عهده سفاح المسلمين كما سيأتي في فصل ( الملك معاوية) , لقد جعل المحرفون خاتم الانبياء كذابا بقولهم ذلك . لقد سعى عمر منذ البداية على تولية بني أمية بلاد الشام ففي عهد الخليفة الاول كان دأب عمر هو اقناع  ابابكر بتولية بني أمية لبلاد الشام وتم له ذلك. الرواية الاتية تبين تخطيط عمر للقضاء على خصومه وتقريب بني أمية : (أن خالد بن سعيد لما قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله (ص)تربص ببيعته لأبى بكر شهرين ولقى على بن ابى طالب وعثمان بن عفان وقال يا بنى عبد مناف لقد طبتم نفسا عن أمركم يليه غيركم, فأما أبو بكر فلم يحفل بها واما عمر فاضطغنها عليه, فلما بعث أبو بكر خالد بن سعيد أميرا على ربع من ارباع الشام وكان أول من استعمل عليها فجعل عمر يقول أتؤمره وقد قال ما قال فلم يزل بأبي بكر حتى عزله وولى يزيد بن أبى سفيان)( الاستيعاب لابن عبد البر , ج3 ص 975, باب سيرة أبوبكر) 
لقد مهد عمربن الخطاب لبني أمية تميهدا , فقد أعطى ولاية الشام لمعاوية بن أبي سفيان وسن معاوية حينها أقل من عشرين سنة على قول بعض الروايات , وقبل ذلك كان أخو معاوية على الشام وهو يزيد بن أبي سفيان ,وولى عمر كذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط صدقات بني تغلب وقربه,  وولى عبد الله بن أبي سرح وهو أخو عثمان من الرضاعة صعيد مصر ,  وجعل المغيرة بن شعبة الصديق الحميم لمعاوية أميرا على الكوفة . وولى عمرو بن العاص الصديق القريب لمعاوية  ولاية فلسطين والاردن  بعد أن عزل  القائد شرحبيل بن حسنة فاتح فلسطين والاردن بلا سبب. وكان والي الطائف في عهد عمر هو عنبسة بن ابي سفيان الاخ الاخر لمعاوية.
تقدم في فصل السقيفة أن اباسفيان كان من المعارضين لخلافة ابوبكر و جاء الى علي بن أبي طالب معترضا على خلافة ابوبكر , وعندها استرضى ابوبكر اباسفيان بالمناصب لاسكاته  ,وعلى ذلك النهج مشى عمر بن الخطاب.
 الرواية الاتية ترينا ترضية عمر بن الخطاب لابي سفيان وكأن ابوسفيان هو صاحب الامر وليس عمر, وفيها يُعزي عمر أباسفيان بوفاة أبنه يزيد حاكم الشام :  ( دخل أبوسفيان على عمر بن الخطاب فعزاه عمر بابنه يزيد، فقال: آجرك الله في ابنك يا أبا سفيان. فقال: أي بني يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: يزيد. قال أبو سفيان: فمن بعثت على عمله؟ قال عمر: معاوية أخاه، وقال عمر: ابنان مصلحان، وإنه لا يحل لنا أن ننزع مصلحا )( نظريات الخليفتين للعلامة الطائي و عن كنز العمال ج13 ص 607, مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ج7 ص 329 ). وهكذا استحكم بني أمية تدريجيا في بناء الدولة في عهد ابوبكر وعمر فلما جاء عهد عثمان صارت لهم.
 هذه المودة والتحابب بين أبي سفيان وعمر تذكرنا بمقولة عمر المشهورة( دعني يارسول الله اضرب عنقه ) فقد قالها عمر في عهد  النبي محمد(ص) قبل فتح مكة, وكان وقتها يريد ضرب عنق أبي سفيان حيث يقول عمر :( أبو سفيان عدوا الله، وقد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني يا رسول الله أضرب عنقه)(عن الغدير للعلامة الاميني ونقله عن مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ج11 ص 43) وهي من بطولات عمر  التي تظهر صرعاته الفارغة, فسبحان الذي جمعهما في عهده على التوادد والتحابب وتقاسم المناصب.
إن القائلين بفساد معاوية وعلانية تحريفه للدين عليهم أن يتذكروا أن من مهد له وهيأ له سبل الملك والسلطان هو الخليفة الثاني عمر , فليراجعوا ما دونه المؤرخون .

دور الخليفة الاول أبوبكر والثاني عمر في تهيئة حكم بني أمية
كان أختطاف السلطة من الامام علي  تحريفاً كبيراً في أهم عمود من أعمدة الدولة ألا وهو نظام الحكم. ولم يغفل أبوسفيان بن حرب العدو الاول للنبي محمد (ص) عن ذلك , فأقتنص فرصته ليهدد الخليفة الاول أبابكر بقوله أنه سيملأها عليهم خيلاً ورجلاً (راجع فصل السقيفة), لقد استطاع أبوسفيان أن يماطل أبابكر  فأغدق الخليفة أبوبكر العطايا على أبي سفيان, ولأرضاءه واسكاته عين ابنه عنبسة واليا على الطائف , ثم يهب الخليفة الاول بلاد الشام ليزيد بن أبي سفيان ويجعله حاكما عليها, وعند وفاة يزيد بن أبي سفيان يعين الخليفة عمر أخا يزيد بن أبي سفيان حاكما على الشام وهو معاوية بن أبي سفيان الاموي الذي صار ملكاً غير متوج على بلاد الشام ينتظر الايام ليعلن دولة بني أمية هناك, وتم له ذلك.
كان لأبي بكر ولعمر بالذات الفضل الاول لتقديم بني أمية على غيرهم , وقيام دولة بني أمية لم يكن تخطيط أيام وأشهر بل كان تخطيطا بعيداً تعود بداياته الى أواخر أيام حكم الخليفة الاول, ونذكر كيف أن عثمان هو الذي كتب أسم عمر  في وصية أبي بكر فرد عمر ذلك الجميل بأعطاء الخلافة لعثمان بن عفان الاموي وصنع عملية الشورى المزيفة . في رسالة رد طويلة للملك الاموي معاوية  يذكر فيها فضل أبي بكر وعمر على تمهيد حكم بني أمية ,وكانت تلك الرسالة جواباً على رسالة من محمد بن أبي بكر ابن الخليفة الاول, وفي الرسالة يتبين دور الخليفة الاول والثاني في التمهيد لدولة أمية.
كتب معاوية:
( كان أبوك ( الخليفة الاول ابوبكر) وفاروقه ( يعني به عمر ) أول من أبتزه حقه ( الضمير يعود على علي بن أبي طالب), وخالفه على أمره, على ذلك اتفقا واتسقا. ثم أنهما دعواه لبيعتهما فأبطأ عنهما , وتلكأ عليهما , وأرادا به العظيم ( يعني بالعظيم هنا التهديد بالقتل ومر بنا شيئا من هذا في فصل السقيفة). ثم أنه بايع لهما وسلم لهما , وأقاما لايشركانه في أمرهما ولايطلعانه على سرهما حتى قبضهما الله اليه.) ثم يكمل الملك معاوية في رسالته معاتباً على محمد بن أبي بكر  فيقول
(أبوك مهد مهاده وبنى لملكه وساده ( يعني أن مافعل أبوك هو الذي مهد لنا قيام هذه الدولة فلاتعتب علينا بأنفرادنا بالسلطة وأعلاننا الملكية الوراثية)، فإن يكن ما نحن فيه صوابا، فأبوك استبد به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك (يعني بأبوك الخليفة الاول ابوبكر) من قبل، ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا، فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك أو دع ذلك، والسلام على من أناب)( مروج الذهب للمسعودي ج3 ص 11  , باب رسائل معاوية). معاوية الاموي هنا يُذَّكر محمد بن الخليفة الاول بما فعل أبوه ويقول له أن أبيك هو الذي أول من أبتدع فانتحل الخلافة واغتصب الامارة من وصي النبي علي بن أبي طالب , فلاتعيب علينا حربنا لعلي  فأننا على سنة أبيك في حرب آل محمد. وقد ينبري من يقول أن هذه الرواية موضوعة لايؤخذ بها, لكن وقائع التاريخ التي مرت تظهر مصداقية الرواية  فهي تلخص كل الوقائع التي حدثت في عهد الخليفة الاول والثاني وتبين أنهما حقا من مهد مهاد دولة بني أمية  .
ليس من العجيب أن عمر بن الخطاب كان يعلم تماما من هم بني أمية ويعلم مواقفهم من النبي محمد , فقد اسلم ابو سفيان ومعاوية بعد فتح مكة وكان يسمون بالطلقاء الذين اطلقهم النبي ,. وفرَّق الان الكريم  بين المسلمين في الدرجات  ( لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل اولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد الفتح وقاتلوا)( الحديد10),لكن عمر فضل طلقاء بني أمية على باقي المسلمين مع كامل علمه بمواقفهم, لقد كان أبو سفيان وغيره من الطلقاء من أول المستفيدين أجتماعياً من تشريع عمر القاضي بتعطيل آية المؤلفة قلوبهم كما مر بنا. لنقرأ التاريخ : (عن المغيرة بن شعبة أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب يوما : يا مغيرة هل أبصرت بعينك العوراء منذ اصيبت؟ قلت لا. قال: أما والله ليعورون بنو امية الاسلام كما أعورت عينك هذه.ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء)( شرح النهج لابن أبي الحديد , وعن الموفقيات لابن بكار). مهما قيل عن سند الرواية هذه لكنها ترينا موقف عمر  كما بينته الاحداث فهو يعرف بفساد بني أمية , وتصرفه وسلوكه وابتداعاته الغريبة عن الدين ترينا أنه غير آبه بما سيكون حال الاسلام وحال الامة من بعده ,واذن ليُخرب بنو أمية هذا الدين ! روي أن ابن عباس سأل الخليفة عمر عن رأيه بعثمان بن عفان فقال عمر: (أوه ثلاث مرات، والله لئن كان الأمر إليه ليحملن بني أبي معيْط على رقاب الناس، ووالله لئن فعل لَيَنْهَضُنّ إليه فلَيَقْتُلُنَه، واللّه لئن فعل ليفْعَلَن، والله لئن فعَلَ ليفْعَلن)( تاريخ المدينة لابن شبة ص 311). تأمل توقعات عمر وفراسته فهو يدري أن عثمان بن عفان عند توليه الخلافة سيحمل قومه (بني أبي معيط) على رقاب الناس. إذن لماذا ترك عمر الأمر لعثمان ؟ تخطيط بعيد ناله بنو أمية بعد ترقب وانتظار.

النصائح الكافية لمن يتولى معاوية

الصفحة التالية
النصائح الكافية لمن يتولى معاوية
فهرس الكتب

وصح عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال لعن عمرو بن عبيد (يعني الزاهد المشهور) وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله سمعت أبا حنفية يقول لعن الله عمرو بن عبيد. ونقل ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال قلت: لأبي أن قوما ينسبونا إلى تولي يزيد فقال يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله ولم لا نلعن من لعنه الله في كتابه فقلت وأين لعن الله يزيد في كتابه فقال في قوله تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم فهل يكون فساد أعظم من هذا القتل وفي رواية يا بني ما أقول في رجل لعنه الله في كتابه. ونقل البخاري رحمه الله في خلق أفعال العباد قال قال وكيع على بشر المريسي لعنه الله يهودي أو نصراني فقال: له رجل كان أبوه أوجده نصرانيا قال وكيع عليه وعلى أصحابه لعنة الله وقد لعن بكر بن حماد والقاضي أبو الطيب وأبو المظفر الاسفرائيني وكثير غيرهم عمران بن حطان في ردهم المشهور على أبياته التي امتدح بها أشقى الآخرين ابن ملجم لعنه الله ولعن يحيى بن معين الحسين بن علي الكرابيسي الشافعي البغدادي كما ذكره في تهذيب التهذيب وما زال اللعن فاشيا بين المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي لعنه وإذا تتبعت كتب الحديث والسير والتاريخ وجدتها مشحونة بذلك (ولهذا أقول) لطالب التحقيق لا يهولنك ما تظافر هؤلاء عليه من منع التعيين مع أنه قد ورد عن نبيهم وكثير من أصحابه ومن أكابر السلف ما يخالفه فليفرغ روعك فإن الهدي هدى محمد وأصحابه. العلم قال الله قال رسوله * إن صح والإجماع فأجهد فيه وحذار من نصب الخلاف جهالة * بين الرسول وبين قول فقيه
ص 32
نعم عورض مطلق اللعن بأحاديث في منعه لا منع التعيين بخصوصه كقوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام ليس المؤمن بالسباب ولا بالطعان ولا باللعان وكقوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام المؤمن لا يكون لعانا وهذه وما شاكلها بلا ريب هي في لعن من لا يستحق اللعن وإلا لم يندفع التعارض فيحصل الخلاف في كلام الله وكلام رسوله وهما منزهان عن ذلك. وسأزيدك إيضاحا لتزداد اطمئنانا فقد أخرج مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب عن حفصة رضي الله عنها قول رسول الله صلى الله عليه وآله إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة (انتهى). نفي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نفسه أن يكون لعانا من يوم بعث وهو الصادق المعصوم وقد ثبت أنه لعن كثيرا بالوصف ولعن كثيرا بالعين ولا ريب في أن لعنه إياهم كان حقا ولولا اختلاف موضوع القضيتين لكان تناقضا وهو ممتنع في كلامه صلى الله عليه وآله قطعا فتعين أن اللعن المنفي صدوره عنه صلى الله عليه وآله هو ما كان عن غير استحقاق وأن اللعن الذي ثبت وقوعه عنه عليه السلام هو لعن من استحق اللعن ولزم أن يكون اللعن الذي نهى عنه صلى الله عليه وآله أمته كما تقدم هوما نفي صدوره عن نفسه لا ما فعله هو وهو الأسوة الحسنة للمؤمنين. رزقنا الله الاتباع لسنته والانقياد لما جاء به آمين.

تتمة: إطالة الغزالي في منع اللعن مطلقاً والجواب عنه 

أطال الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين في منع اللعن مطلقا فضلا عن لعن شخص معين واسترسل في ذلك حتى قال ابن في لعن يزيد فضلا عن أبيه خطرا على اللاعن بل منع أن يقال لعن الله قاتل الحسين بن علي عليهما السلام ثم قال ففي لعن الأشخاص خطر ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلا فضلا عن غيره وأستدل رحمه الله بعموم الأحاديث التي مرت بك في معارضة مطلق اللعن وأمثالها في المعنى.
ص 33
والغزالي كما علمت وعلم الكل إمام عظيم من علماء المسلمين ومحقق كامل من محققيهم ولنا به القدوة والأسوة الحسنة في سلوك طريقته واتباع إرشاداته غير أن الإنسان - إلا النبيين - وأن جل شأنه وعظم مقداره ليس بمعصوم من هفوة أو خطأ في اجتهاد ولا يجوز لمن عرف حقا بأدلته الواضحة أن يقلد غيره وأن جل شأنه في خلاف ما عرفه من الحق ولو كان التقليد المحض في كل شيء مجد عند الله تعالى شيئا لكان الإمام الغزالي من أولى من تقلده في ذلك وحينئذ نقول ولا استحياء من الحق ولا هواة في الدين أن هذه هفوة منه رحمه الله لا يجوز لنا الاعتماد عليها ولا اتباعه فيها ولو جاز الاستدلال بهفوات العلماء والأكابر لعظم الخطب وانقلب الحق ظهرا لبطن وقد مر بك قريبا ما يخالف مدعاه مما أوردناه من كلام الله تعالى وأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وأفعاله ومن أقوال الأكابر من الصحابة والتابعين وكثير بعدهم فأرجع إليه. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن له أن يدعها لقول أحد وقال صاحب الهداية سئل أبو حنيفة رحمه الله إذا قلت: قولا وكتاب الله يخالفه قال أتركوا قولي بكتاب الله قيل إذا كان خبرا لرسول الله صلى الله عليه وآله يخالفه قال: اتركوا قولي بقول الصحابة فضلا عن قول الرسول صلى الله عليه وآله (انتهى).

قول الغزالي لعن الأشخاص خطر وجوابه 


أما قول الغزالي رحمه الله ففي لعن الأشخاص خطر فمبنى على جملة نهى النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام عن لعن حمار المحب لله ورسوله على النهي عن لعن المعين وقد علمت مرجوحية هذا الحمل بل فساده مما قدمناه وأي خطر في لعن من استحق اللعن بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله سواء كان بالشخص أو الوصف إذ الذات الواقع عليها اللعن بكل منهما واحدة.
ص 34

قوله لا خطر في السكوت حتى عن لعن إبليس مثلاً وجوابه 


وأما قوله رحمه الله ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلا فضلا عن غيره فمسلم عند الكل لأن لعن إبليس وغيره ممن يستحق اللعن لم يكن من الفرائض التي افترضها الله على عباده حتى يكون تركها خطرا لكن تركه مفوت للتأسي بما جاء عن الله ورسوله وملائكته في لعنهم من استحق اللعن والتأسي بهم مشروع وهو نافلة من النوافل ولا خطر في ترك النافلة كما لو ترك الإنسان الترضي عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي بل لو ترك الأذان والإقامة وصلاة التراويح مثلا فلا خطر عليه في ذلك أما إذا ترك لعن إبليس شكا في استحقاقه اللعن أو عنادا فهو كافر لرده المنصوص في القرآن ومراغمته ومثله التارك لعن القاتل والشارب مثلا شكا في استحقاقه أما التارك لغير الشك بل للعصبية والهوى فموكول أمره إلى الله تعالى وهذه الجملة لو لم تكن صادرة عن هذا الإمام العظيم لقلنا إن قائلها أراد بها المغالطة والمشاغبة ولكنا ننزهه عن ذلك ونجريها على ظاهرها وهذه المقالات من الإمام الغزالي جرأت كثيرا من أنصار معاوية على مقالات بشعة شنيعة فقال بعضهم لو أن يزيد باشر قتل الحسين بيده واستحله أيضا لم يجز لعنه وقال: آخر لا أبالي أن أقول لو اطلع مطلع على الغيب فعلم أن معاوية مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه وقال ثالث إن اللعن من السفه المذموم مع أن كتاب الله تعالى وحديث رسوله صلى الله عليه وآله مشحونان بذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أما قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وقوله: صلى الله عليه وآله لا تسبوا. الأموات فتؤذوا الأحياء فقد قال الحافظ الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار هو مخصوص بما جاء في حديث أنس وغيره أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم قال عند ثنائهم بالخير والشر وجبت أنتم شهداء الله في أرضه ولم ينكر عليهم قال: ولأن الكفار مما
ص 35
يتقرب إلى الله بسبهم ولا غيبة لفاسق والسب يكون في حق الكافر والمسلم أما في حق الكافر فيمتنع إذا تأذى به الحي المسلم وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك يصير من قبيل الشهادة عليه وقد يجب في بعض المواضع (انتهى) ثم قال والوجه تبقية الحديث على عمومه إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر وجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا لإجماع العلماء على جواز ذلك وذكر مساوي الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم (انتهى) والله الموفق للصواب.

ذكر نبذة من بوائق معاوية 


ولنذكر هنا نبذة من بوائق معاوية العظيمة المدخلة في زمرة من استحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله تعالى والمتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتي ما حرم الله والتارك لسنتي أخرجه الترمذي عن عائشة وابن عساكر عن ابن عمر قال: الحسن البصري رحمه الله. أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منها لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه من بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زيادا وقد قال: رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجرا وأصحاب حجر ويا ويلا. له من حجر وأصحاب حجر (انتهى بحروفه) من الكامل. ولنقدم منها أم موبقاته وأعظمها شرا على المسلمين في الدنيا وأكثرها وبالا عليه وعلى أشياعه في الآخرة وهي بغيه على الإمام الحق ومناصبة العداوة والبغضاء لمن عداوته لله ولرسوله وبغضه نفاق كما دلت
ص 36
عليه الأحاديث الصحيحة المتعددة التي لم يبق معها ريبة للمنصف في سوء حال معاوية وفساد نيته واستخفافه بالدين وجرأته على الله وعلى رسوله ثم نتبعها بما ثبت بالتواتر والنقل الصحيح من موبقاته العظيمة وفظائعه الجسيمة جازاه الله بما هو أهله. والبغي كما في القاموس وغيره هو التعدي والظلم والعدول عن الحق والاستطالة الكذب وقال الأبي: البغي عرفا الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له (انتهى). وقد بايع المسلمون عليا عليه السلام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وفيهم أهل الحل والعقد من المهاجرين الأولين والأنصار وذوي السوابق وتأخر معاوية بأهل الشام وحبس عنده رسول علي كرم الله وجهه إليه مدة حتى انتهت وقعة الجمل ثم تستر عن بغيه بالطلب بدم عثمان وغر أهل الشام واستغواهم وكذب عليهم فأخبرهم أن عليا قتل عثمان وأقام لهم شهود الزور بذلك ونشر قميص عثمان على المنبر مخضبا بالدم حتى خرج علي عليه السلام إليه في أهل العراق وخرج هو بأهل الشام إلى أن التقيا بصفين وكان من أمر وقائعها ما هو مشروح في كتب السير والتواريخ وقتل في تلك الوقائع من المسلمين سبعون ألفا خمسون ألفا من أهل الشام وعشرون ألفا من أهل العراق قال: العلامة الزرقايي في نهج المسالك أتى علي رضي الله عنه في أهل العراق في سبعين ألفا فيهم تسعون بدريا وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار وخرج معاوية في أهل الشام في خمسة وثمانين ألفا ليس فيهم من الأنصار إلا النعمان ابن بشير ومسلمة بن مخلد انتهى.

كتاب معاوية إلى سعد ابن أبي وقاص وجوابه 


وفي العقد الفريد عن أبي الحسن قال لم يبايع أهل الشام معاوية بالخلافة حين خرج وإنما بايعوا على الطلب بدم عثمان فلما كان من أمر الحكمين ما كان بايعوه بالخلافة فكتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله
ص 37
عنه يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان سلام عليك أما بعد فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه واختاروه على غيره ونصره طلحة والزبير وهما شريكاك في الأمر ونظيراك في الإسلام وخفت لذلك أم المؤمنين فلا تكره ما رضوا ولا ترد ما قالوا وإنما تريد أن نردها شورى بين المسلمين والسلام. فأجابه سعد رضي الله عنه أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة فلم أجد أحدا أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه غير أن عليا كان فيه ما فينا ولم يكن فينا ما فيه ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن وهذا الأمر قد كرهنا أوله وكرهنا آخره وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت. وهكذا أخرجه المحدث ابن قتيبة في كتاب الإمامة.

كتاب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة وجوابه 


وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة أما بعد فإنما أنت يهودي ابن يهودي إن ظفر أحب الفريقين إليك عزلك واستبدل بك وإن ظفر أبغض الفريقين إليك قتلك ونكل بك وقد كان أبوك أوتر قوسه ورمى غرضه فأكثر الحز وأخطأ المفصل فخذله قومه وأدركه يومه ثم مات طريدا بحوران. فأجابه قيس: أما بعد فأنت وثني ابن وثني دخلت في الإسلام كرها وخرجت منه طوعا لم يقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه وأعداء الدين الذي دخلت فيه والسلام (انتهى). وفي ربيع الأبرار للزمخشري رحمه الله دعا معاوية قيس بن سعد بن عبادة إلى مفارقة علي بن أبي طالب حين تفرقت الناس عنه فكتب إلى معاوية يا وثني ابن وثني تدعوني إلى مفارقة علي بن أبي طالب والدخول في طاعتك وتخوفني بتفرق أصحابه عنه وانثيال الناس عليك واجفالهم إليك فوالذي لا إله غيره لا سالمتك أبدا وأنت حربه ولا دخلت في طاعتك وأنت عدوه ولا
ص 38
اخترت عدو الله على وليه ولا حزب الشيطان على حزبه (انتهى).

تخريج حديث عمار تقتله الفئة الباغية 


وأخرج الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس ولابنه علي انطلقا إلى أبي سعيد فأسمعا من حديثه فانطلقنا فإذا هو في حانط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه وآله فجعل ينفض التراب عنه ويقول ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. وأخرجه أيضا مسلم والطبراني والترمذي والحاكم والإمام أحمد في مسنده وغيرهم وعده الحفاظ جلال الدين السيوطي في الأخبار المتواترة وعزاه للشيخين عن أبي سعيد ولمسلم عن أبي قتادة وأم سلمة وأبي يعلى ولأحمد عن عمار وابنه وعمر بن حزم وخزيمة ذي الشهادتين وللطبراني عن عثمان وأنس وأبي هريرة وللحاكم عن حذيفة وابن مسعود وللرفاعي عن أبي رافع ولابن عساكر عن جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس ومعاوية وزيد بن أوفى الأسلمي وأبي اليسر كعب بن عمرو وزياد وكعب بن مالك وأبي أمامة وعائشة ولابن أبي شيبة عن عمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو قال: فهؤلاء سبعة وعشرون صحابيا فيهم خزيمة كصحابيين (انتهى). وقال حافظ المغرب ابن عبد البر تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: تقتل عمار الفئة الباغية وهذا من إخباره بالغيب وإعلام نبوته وهو من أصح الأحاديث (انتهى). وقال ابن دحية لا مطعن في صحته ولو كان غير صحيح لرده معاوية وأنكره. وقال الحافظ ابن حجر رواه جمع من الصحابة فذكرهم وقال: وفيه علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار رضي الله عنهما.

محاولة معاوية التملص من حديث عمار 


قلت لا يختلف اثنان في أن عمارا قتل بصفين وهو في حزب الإمام علي
ص 39
عليه السلام وأن قتلته هم فئة معاوية صب بهذا أن معاوية باغ داع إلى النار كما ذكر في الحديث والدعي إلى النار مستحق اللعن في الدنيا والخذلان والقبح يوم القيامة كما جاء في كتاب الله عز وجل قال تعالى: وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين والمقبوح هو الذي نحي عن الخير. وقد حاول معاوية التملص من هذا الحديث بالاحتيال لكيلا ينتقض عليه أحد من أصحابه حيث لم يقدر على إنكاره فقال إنما قتله من أخرجه. فأجابه الإمام علي عليه السلام بأن رسول الله صلى الله عليه وآله يكون قاتل حمزة حيث أخرجه لقتال المشركين وهذا من الالزام الذي لا جواب عنه ثم رجع معاوية وتأوله بالطلب وقال نحن الفئة الباغية أي الطالبة لدم عثمان. من البغاء - بضم الباء الموحدة والمد - وهو الطلب ولا يخفى سقوط التأويلين وخطؤهما أما الأول فظاهر وأما الثاني فإن قول الرسول صلى الله عليه وآله دعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار كالنص الصريح في أن الباغية من البغي المذموم المنهي عنه كما في قوله تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي لا من البغاء الذي هو الطلب. وعندي إن معاوية أحذق من أن يقول ذلك عن اعتقاد فإنه أمر ظاهر الفساد للخاص والعام والذكي والبليد وكان الواجب عليه أن يرجع عن غيه وبغيه ويرفض المخالفة ولكن غلبت عليه شقوته وأضله الله على علم فاحتال بهذه التأويلات الفاسدة حرصا على الدنيا وتعزيزا لأشياعه وأتباعه وتسترا في الظاهر وفرارا عن الاقرار بحقيقة أمره وتربعه على كرسي امامة الدعاء إلى النار ومحاربة العزيز الجبار

ندم ابن عمر وغيره على التخلف عن قتال معاوية 


فإنه لم تبق بعد قتل عمار أدنى شبهة لعاقل ولا قول لقائل. ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنه ندم أشد الندم على عدم قتاله معاوية وأصحابه فقد روى أبو حنيفة عن عطاء بن أبي رباح عن ابن
ص 40
عمر رضي الله عنهما قال ما آسى على شيء إلا أن أكون قاتلت الفئة الباغية وعلى صوم الهواجر وقال ابن عبد البريروي من وجوه عن حبيب عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: حين حضرته الوفاة ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا إلا أني لم أقاتل مع علي الفئة الباغية ورواها الحاكم بسند صحيح فالبيهقي عنه قال ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت من هذه الآية إني أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله يعني قوله تعالى: فإن بغت أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله. قال الحاكم هذا باب كبير قد رواه عن ابن عمر جماعة من كبار التابعين وكان خزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين رضي الله عنه كانا سلاحه حتى قتل عمار بصفين فسل سيفه وذكر حديث عمار ثم قاتل عسكر معاوية حتى قتل وقد نقل ابن عبد البر في الإستيعاب عن إبراهيم النخعي أن مسروق بن الأجدع لم يمت حتى تاب من تخلفه عن علي كرم الله وجهه.

كتاب من علي عليه السلام إلى معاوية يكذبه في دعوى نصر عثمان 


ومن كتاب من الإمام علي كرم الله وجهه إلى معاوية كما في نهج البلاغة قال: فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتبعة مع تضييع الحقائق واطراح الوثائق التي هي لله طلبة وعلى عباده حجة فأما إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته فإنك إنما نصرت عثمان حين كان النصر لك وخذلته حيث كان النصر له (انتهى). يشير كرم الله وجهه إلى أن معاوية إنما زعم نصرة عثمان بعد موته حيث كانت المصلحة عائدة إليه بالولاية التي يطلبها وخذله في حياته حيث كانت المصلحة عائدة على عثمان فقد ذكر أهل السير - واللفظ للبلاذري - إن معاية لما استصرخه عثمان تثاقل عنه وهو في ذلك يعده حتى إذا أشتد به الحصار بعث إليه يزيد بن أسد القشيري وقال له: إذا أتيت ذا خشب فأقم بها ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فأنا الشاهد وأنت الغائب قالوا فأقام بذي خشب حتى
ص 41
قتل عثمان فأستقدمه حينئذ معاوية فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان معه فكان في الظاهر نصرة لعثمان ببعث الجيش وهو في الحقيقة خذلان له لحبسه الجيش كي يقتل عثمان فيدعو إلى نفسه كما وقع بالفعل.

محاورة جارية بن قادمة لمعاوية ومحاورة عامر بن وائلة له 


وأخرج ابن عساكر عن الفضل بن سويد قال وفد جارية بن قدامة على معاوية فقال له معاوية أنت الساعي مع علي بن أبي طالب والموقد النار في شيعتك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم. قال جارية يا معاوية دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ولا غششناه منذ نصحناه. قال ويحك يا جارية ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية قال أنت يا معاوية أهون على أهلك إذ سموك معاوية. قال لا أم لك. قال أم ما ولدتني إن قوالم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا قال إنك لتهددني قال إنك لم تملكنا قسرة ولم تفتحنا عنوة ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق فإن وفيت لنا وفينا وإن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا وأدرعا شدادا والسنة حدادا فإن بسطت إلينا فترا من غدر دلفنا إليك بباع من ختر قال: معاوية لا نثر الله في الناس أمثالك وأخرج أيضا عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أنه دخل على معاوية فقال له معاوية ألست من قتلة عثمان قال لا ولكني ممن حضره ولم ينصره قال وما منعك من نصره قال لم ينصره المهاجرون والأنصار فقال معاوية أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصروه قال: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام فقال معاوية أما طلبي بدمه نصرة له فضحك أبو الطفيل ثم قال أنت وعثمان كما قال الشاعر: لا ألفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي انتهى من تاريخ الخلفاء للسيوطي.

مشافهة شبث بن ربعي له بالنصيحة 


وقد شافه شبث بن ربعي معاوية في صفين بما بين به حقيقة أمره ويحمله على التوبة لو وجد أذنا واعية إذ قال له: يا معاوية إنه والله لا يخفى علينا
ص 42
ما تطلب إنك لم تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه فاستجاب لك سفهاء طغام وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأجبت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ورب متمنى أمر وطالبه يحول الله دونه وربما أوتي المتمني أمنيته فوق أمنيته ووالله ما لك في واحدة منهما خير والله إن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالا ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله. انتهى من الكامل وأخرجه البيهقي أيضا في المحاسن والمساوي.

كتاب من علي عليه السلام إلى معاوية يعظه 


ومن كتاب من الإمام علي عليه السلام إلى معاوية قال: وأرديت جيلا من الناس كثيرا خدعتهم بغيك وألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظلمات وتتلاطم بهم الشبهات فحادوا عن وجهتهم ونكصوا على أعقابهم وتولوا على أدبارهم وعولوا على أحسابهم إلا من فاء من أهل البصائر فأنهم فارقوك بعد معرفتك وهربوا إلى الله من موازرتك إذ حملتهم على الصعب وعدلت بهم عن القصد فاتق الله يا معاوية في نفسك وجاذب الشيطان قيادك فإن الدنيا منقطعة عنك والآخرة قريب منك والسلام. انتهى من نهج البلاغة.

كتاب محمد بن أبي بكر الصديق إلى معاوية 


وفي مروج الذهب للمسعودي قال لما وصل محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما إلى مصر كتب إلى معاوية كتابا فيه: من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر أما بعد فإن الله بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه ولا ضعف في قوته ولا حاجة به إلى خلقهم لكنه خلقهم عبيدا وجعل منهم غويا ورشيدا وشقيا وسعيدا ثم اختار على علم وانتخب واصطفى منهم محمدا صلى الله عليه وآله فاتنخبه لعلمه واصطفاه لرسالته وائتمنه على وحيه وبعثه رسولا ومبشرا ونذيرا فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صدقه بالغيب
ص 43
المكتوم وآثره على كل حميم ووقاه بنفسه كل هول وحارب حربه وسالم سلمه فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع حتى برز سابقا لا نظير له فيمن اتبعه ولا مقارب له في فعله وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو أصدق الناس نية وأفضل الناس ذرية وخير الناس زوجة وأفضل الناس ابن عم أخوه الشاري بنفسه يوم مؤتة وعمه سيد الشهداء يوم أحد وأبوه الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن حوزته وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغيان رسول الله صلى الله عليه وآله الغوائل وتجهدان في إطفاء نور الله تجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتؤلبان عليه القبائل على ذلك مات أبوك وعليه خلفته والشهيد عليك من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق والشاهد لعلي مع فضله المبين القديم أنصاره الذين معه الذين ذكرهم الله بفضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار وهم معه كتائب وعصائب يرون الحق في اتباعه والشقاء في خلافه فكيف يالك الويل تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعا وأقربهم به عهدا يخبره بسره ويطلعه على أمره وأنت عدوه وابن عدوه فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك وليمددك ابن العاص في غوايتك فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا وأعلم أنك إنما تكايد ربك الذي آمنك كيده ويئست من روحه فهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور والسلام على من اتبع الهدى. فما كان جواب معاوية عليه إلا أن ادعى أن الشيخين أبا بكر وعمر سبقاه إلى ما اقترف وأنه متأس بهما وحاشاهما مما ادعى فقد كذب عليهما ولعنة الله على الكاذبين.

تنصل عبد الله بن عمرو بن العاص من حرب صفين واسترضائه الحسين 


وأخرج ابن عساكر عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله في حلقة فيها أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو بن
ص 44
العاص فمر بنا حسين بن علي فسلم فرد عليه القوم فقال عبد الله بن عمرو ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء قالوا بلى قال هو هذا الماشي ما كلمني كلمة منذ ليالي صفين ولأن يرضى عني أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم فقال أبو سعيد ألا تعتذر إليه قال بلى فاستأذن أبو سعيد فأذن له فدخل ثم استأذن لعبد الله بن عمرو فلم يزل به حتى أذن له فأخبره أبو سعيد بقول عبد الله بن عمرو فقال له أعلمت يا عبد الله إني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء قال أي ورب الكعبة قال فما حملك على أن قاتلتني وأبي يوم صفين فوالله لأبي كان خيرا مني قال أجل ولكن عمرو شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله إن عبد الله يقوم الليل ويصوم النهار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يا عبد الله ابن عمرو صلى ونم وصم وافطر وأطع عمرو فلما كان يوم صفين أقسم علي فخرجت أما والله ما كثرت لهم سوادا ولا اخترطت لهم سيفا ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم قال فكلمه (انتهى). فأصحاب معاوية هم الباغون بلا ريب على الإمام المرتضى وهم القاسطون كما وعد بهم المصطفى قال الله تعالى: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا

بيان كون معاوية وأصحابه هم القاسطون 


أخرج ابن عساكر عن أبي صادق قال: قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق فقلت له يا أبا أيوب قد أكرمك الله بصحبة نبيه صلى الله عليه و(آله) وسلم وبنزوله عليك فما لي أراك تستقبل الناس تقاتلهم هؤلاء مرة وهؤلاء أخرى فقال: إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم عهد إلينا أن نقاتل مع علي الناكثين فقد قاتلناهم وعهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم اليوم يعني معاوية وأصحابه وعهد إلينا أن نقاتل مع علي المارقين فلم أرهم بعد وأخرج ابن جرير عن مخنف بن سليم قال أتينا أبا أيوب فقلنا يا أبا أيوب قاتلت المشركين بسيفك مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثم جئت تقاتل المسلمين فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا بقتال ثلاث الناكثين والقاسطين والمارقين فقد قاتلت الناكثين والقاسطين وأنا مقاتل
ص 45
إن شاء الله المارقين. وأخرج البيهقي في المحاسن والمساوي إن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما من الناكثون قال الذين يبايعون عليا بالمدينة ثم نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل والقاسطون معاوية وأصحابه والمارقون أهل النهروان ومن معهم فقال الشامي يا ابن عباس ملأت صدري نورا وحكمة وفرجت عني فرج الله عنك أشهد أن عليا مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (انتهى). وأخرج ابن عبد البر في الإستيعاب عن أبي ليلى الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فألزموا علي بن أبي طالب فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب الدين والمال يعسوب المنافقين وأخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قوله النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفها قبيلة اختلفت فصارت حزب إبليس وأخرج ابن عساكر عن حبة قال سمعت عليا عليه السلام يقول: نحن النجباء وأفرطنا إفراط الأنبياء وحزبنا حزب الله والفئة الباغية حزب إبليس ومن سوى بيننا وبين عدونا فليس منا

شهادة أمير المؤمنين على معاوية وأصحابه أنهم ليسوا بأهل دين وأنهم شر رجال 


ونقل ابن الأثير عن علي أنه قال مخاطبا لأهل العراق يذكر معاوية وحزبه ويحرضهم على قتاله ما لفظه: قاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفئ نور الله فقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين الذين ليسوا بقراء قرآن ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأول ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل (انتهى بحروفه) وهاهم قد ولوا وعملوا والله بأعمال كسرى وهرقل وصدق الله رسوله وصدق المرتضى ولكن عمي البصائر غلف القلوب يصفون معاوية وأعوانه بضد ما وصفهم به أعلم خلق الله بهم وأصدقهم فيهم ويكذبون شهادة
ص 46
أمير المؤمنين عليه السلام. ونقل ابن الأثير أيضا عن علي عليه السلام أنه قال إن معاوية وعمروا وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم منكم قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال. (انتهى بحروفه). وجاء بسند فيه لين أن عليا عليه السلام قال انفروا إلى بقية الأحزاب انظروا إلى ما قال الله ورسوله أنا نقول صدق الله ورسوله ويقولون كذب الله ورسوله. وفي نهج البلاغة من كلام الإمام علي عليه السلام من كتاب إلى معاوية قوله مخاطبا له: دخلت في الإسلام كرها وخرجت منه طوعا. ونقل ابن الأثير عن الإمام علي عليه السلام من كلام له لم يرعني إلا انشقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام طليق ابن طليق حزب من الأحزاب لم يزل حربا لله ولرسوله هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين . وذكر المسعودي في مروج الذهب وغيره أن عليا عليه السلام نزل الأنبار والتأمت عليه العساكر فخطب الناس وحرضهم على الجهاد وقال: سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار قد طالما سعوا في إطفاء نور الله وحرضوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله ومن معه إلا أن رسول الله. أمرني بقتال القاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم والناكثين وهم هؤلاء الدين فرغنا منهم والمارقين ولم نلقهم بعد فسيروا إلى القاسطين فهم أهم علينا من الخوارج سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين يتخذهم الناس أربابا ويتخذون عباد الله خولا ومالهم دولا (انتهى)

امتناع الحسن عن قتال الخوارج وقوله أن قتال معاوية أولى 


وقال: الحافظ - الشوكاني في نيل الأوطار لما كتب معاوية إلى الحسن بن علي يطلب منه أن يقاتل الخوارج. أجابه لو آثرت أن أقاتل
ص 47
أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك وقال فيه حكى في البحر عن العترة جميعا أن جهاد البغاة أفضل من جهاد الكفار إذ فعلهم في دار الإسلام كفعل الفاحشة في المسجد (انتهى). قلت يستأنس لقول العترة بما أخرجه الخطيب عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ألم يكن فيما نقرأ قاتلوا في الله في آخر مرة كما قاتلتم أول مرة قال فمتى ذلك قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو مخزوم الوزراء وبما أخرجه ابن جرير في تفسيره بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة فقال عمر من الذين أمرنا بجهاده قال: قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس (انتهى). وأقول أيضا يؤخذ منه أن يكون سبهم للتحذير منهم وبيان حالهم أفضل من سب الكافر لأن الضرر يخشى منهم أكثر والعامة إلى الاغترار بهم أقرب فينبغي إعلان حالهم لتحذير الأمة من الاقتداء بهم والميل إلى أكاذيبهم وتأويلاتهم.

القول بإلزام طلحة وعائشة ما لزم معاوية وبيان الحق فيه 


فإن قال: قائل كل ما لزم معاوية في خروجه على الإمام علي ومحاربته يلزم طلحة والزبير وعائشة رضوان الله عليهم وكل ما تأولتموه لهم فنحن نتأوله لمعاوية وكل جواب عنهم فهو جواب عنه. قلت أما ما لزم معاوية من كونه مخطئا وإن المصيب في جميع حروبه معه ومنازعاته له هو الإمام علي المرتضى فلزومه للزبير وطلحة وعائشة رضوان الله عليهم مسلم. فقد أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي أهل الحديث والرأي ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين من المسلمين على أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل وإن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له لكن لا يكفرون بغيهم كذا ذكره الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة وزاد الغزالي ولم يقل بتخطئة الإمام علي ذو تحصيل (انتهى)
ص 48
وأما ما يلزم معاوية وأعوانه من الفسق ببغيهم ومحاربتهم لله ورسوله واقترافهم العظائم وجواز لعنهم ووجوب بغضهم فلا نسلم ذلك للزبير وطلحة وعائشة رضوان الله عليهم فإن الشوط بين الفئتين بطين والمفرق بين الفريقين عظيم بل نقول إن الثلاثة إنما خرجوا متأولين مجتهدين وهم من أهل الاجتهاد وكانوا مخطئين في اجتهادهم ولكنهم رجعوا عن ذلك حين ظهر لهم الحق وندموا على ما فعلوا ولم يصروا على ذلك كما أصر معاوية إلى آخر حياته كما يشهد به التواتر. وقد نقل المسعودي في مروج الذهب وغيره من أهل المغازي إن عليا كرم الله وجهه خرج بنفسه حاسرا يوم الجمل على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله لا سلاح عليه فنادى يا زبير اخرج إلي فخرج شاكيا في السلاح فقيل لعائشة فقالت واحرباه يا أسماء فقيل لها إن عليا حاسر فاطمأنت واعتنق كل منهما صاحبه فقال له ويحك يا زبير ما الذي أخرجك قال دم عثمان قال: قتل الله أولانا بدم عثمان أما تذكر يوم لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله في بني بياضه وهو راكب حماره فضحك إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وضحكت أنت معه فقلت أنت ما يدع ابن أبي طالب زهوة فقال لك ليس به زهوا تحبه يا زبير؟ فقلت: والله إني لأحبه فقال لك إنك والله ستقاتله وأنت له ظالم فقال الزبير أستغفر الله لو ذكرتها ما خرجت. فقال يا زبير إرجع فقال وكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان هذا والله العار الذي لا يغسل فقال يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار فرجع الزبير وهو يقول: اخترت عارا على نار مؤججة * ما أن يقوم لها خلق من الطين نادى علي بأمر لست أجهله * عار لعمرك في الدنيا وفي الدين فقلت حسبك من عدل أبا حسن * فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني ثم مضى منصرفا حتى أتى وادي السباع فقتله عمرو ابن جرموز في الصلاة
ص 49
غدرا وأتي عمرو عليا بسيف الزبير وخاتمه فقال علي: سيف طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله لكنه الحين ومصارع السوء وقاتل ابن صفية في النار ثم نادى علي طلحة رضي الله عنهما حين رجع الزبير يا أبا محمد ما الذي أخرجك قال الطلب بدم عثمان قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه وأنت أول من بايعني ثم نكث وقد قال الله عز وجل فمن نكث فإنما ينكث على نفسه فقال أستغفر الله ثم رجع فقال: مروان بن الحكم رجع الزبير ويرجع طلحة ما أبالي رميت هاهنا أم هاهنا فرماه في أكحله فمر به علي بعد الوقعة فقال إنا لله وإنا إليه راجعون والله لكنت كارها لهذا (انتهى بحذف يسير). وأخرج الحاكم في المستدرك عن ثور بن جزاءة قال مررت بطلحة بن عبيد الله يوم الجمل وهو صريع في آخر رمق فوقفت عليه فرفع رأسه فقال إني لأرى وجه رجل كأنه القمر فمن أنت قلت من أصحاب أمير المؤمنين علي فقال ابسط يدك أبايعك له فبسطت يدي فبايعني وفاضت نفسه فأتيت عليا فأخبرته بقول طلحة فقال الله أكبر الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه وذكر المسعودي أن عائشة رضي الله عنها حين رجعت إلى المدينة قالت وددت أني لم أخرج وإن أصابني كيت وكيت من أمور ذكرتها وإنما قيل لي تخرجين فتصلحين بين الناس فكان ما كان ونقل ابن الأثير أنها قالت يوم الجمل والله لوددت أني مت قبل اليوم بعشرين سنة ونقل الملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر أنها كانت تبكي ندما حتى تبل خمارها وقال ابن عبد البر في الإستيعاب روى إسماعيل بن علية عن أبي سفيان ابن العلاء عن أبي عتيق قال: قالت عائشة إذا مر ابن عمر فأرونيه فلما مر ابن عمر قالوا هذا ابن عمر فقالت يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري قال: رأيت رجلا قد غلب عليك وظننت لا تخالفينه يعني ابن الزبير قالت:
ص 50
أما إنك نهيتني ما خرجت. وعن جميع بن عمير رضي الله عنه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: من كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: فاطمة فقلت: إنما سألتك عن الرجال قالت: زوجها وما يمنعه فوالله إنه كان لصواما قواما وقد سالت نفس محمد في يده فردها إلى فيه قلت: فما حملك على ما جرى فأرخت خمارها على وجهها وبكت وقالت: أمر قضي علي. وجاء بسند رجاله ثقات إلا واحدا فضعيف ومع ذلك يكتب حديثه أنه ذكر لعائشة يوم الجمل فقالت والناس يقولون يوم الجمل قال نعم قالت: وددت أني كنت جلست كما جلسن صواحبي فكان أحب إلي من أن أكون ولدت من رسول الله صلى الله عليه وآله بضعة عشر ولدا كلهم مثل عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أو مثل عبد الله بن الزبير. وفي ربيع الأبرار للزمخشري رحمه الله قال: جزعت عائشة رضي الله عنها حين احتضرت فقيل لها فقالت: اعترض في حلقي يوم الجمل (انتهى) وقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده ابن عليا كرم الله وجهه سئل: يوم الجمل الجمل عن أهل الجمل المقاتلين له أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا فقيل أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا فقيل فما هم قال: إخواننا بغوا علينا (انتهى) ولم يقل هذا لأهل صفين وقد اختلف فعله كرم الله وجهه في الواقعتين قانه يوم الجمل لم يتبع موليا ولم يجهز على جريح ولم يطلب مدبرا ومن ألقى سلاحه أو دخل داره كان آمنا واستغفر لطلحة والزبير وعائشة وترحم عليهم وأرضى عائشة وأبلغها إلى المدينة مأمنها وقد قتلهم في صفين مقبلين ومدبرين وأجهز على جرحاهم لأن لهم رئيسا باغيا يرجعون إليه وهم مصرون على فعلهم وعصيانهم فلعن رئيسهم وأعوانه ودعا عليهم فلقد عامل كرم الله وجهه كلا بما يستحق.
ص 51
ثم إن سوابق هؤلاء في الإسلام ونصحهم لله ورسوله وفقههم في الدين وحسن بلائهم في الجهاد مع نبي الله وشهادته لهم بالجنة تدل دلالة قوية على سلامة مقصدهم واشتباه الأمر عليهم حتى إذا اتضح رجعوا إليه وتابوا واستغفروا والله غفور رحيم وليس كذلك معاوية وأعوانه في صفين وغيرها فأنهم خرجوا أشرا وبطرا وطعما في الدنيا وفيما لاحق لهم فيه من الخلافة متسترين بالطلب بدم عثمان على أن سوابقهم في الإسلام سوابق سوء تشهد بها الأخبار والسير ومع ذلك فقد أصروا على بغيهم وعنادهم وحينئذ فلا يلزم الزبير وطلحة وعائشة ما يلزم معاوية مما جوزه أهل الحق من لعنه ووجوب بغضه لا جعلنا الله من أنصاره ولا من المشوهين وجه الدين بالمغالطة في شأنه آمين. ولعلك تقول متجاسرا كما أن طلحة والزبير وعائشة رضوان الله عليهم مجتهدون في أعمالهم ولهم أجر من اجتهد فأخطأ فكذلك معاوية فنقول: هذه مقالة قد سبقك بها كثير من أنصاره وقد نفخت بها أبواق ودقت بها طبول ولكن الحق فيها أبلج واضح أما كونه من أهل الاجتهاد فمسلم لأن له من الذكاء والدهاء والحذق والعلم بالعربية وأساليب الكلام ما لا يدانيه فيه كثير من المجتهدين ولكنه مجتهد عرف أن الحق من كل الوجوه مع علي عليه السلام ثم خالفه عنادا وبغيا وحبا للجاه والمال ولو كان خروجه لرسيس من شبهة أو وميض من طلب حق لما أصر على بغيه بعد قتل عمار ولرجع كمن رجعوا. وإن مما يقرب من المستحيل أن يؤديه ذكاؤه الخارق ودهاؤه العظيم وحذقه الثاقب إلى اعتقاد أنه أحق شيء من الأمر من علي كرم الله وجهه وممن مع علي من المهاجرين ذوي السوابق الحسنة كيف وقد أجمع على تخطئته فيما فعل الخاص والعام من المسلمين اللهم إلا نفرا استغواهم هو
ص 52
نفسه بالمال والخداع فهل يعرف الكل خطأه ولا يعرفه داهية العرب وكسرها؟ بل أضله لله على علم وذهب به البغي كل مذهب وليس إلا الوزر لا الأجر ولا تغني عنه بيوت العنكبوت التي بناها له أنصاره كالشيخ ابن حجر الهيثمي من عذاب الله شيئا.

إشارة إلى ما يذكره ابن حجر الهيثمي في الصواعق وتطهير الجنان من التأويل لمعاوية 


جاء الشيخ ابن حجر رحمه الله في كتابيه الصواعق المحرقة وتطهير الجنان بما يضحك الثكلى ويأسف له الحكيم من التحملات الفاسدة والتأويلات البعيدة والتعسفات المتناقضة وروائح النصب تفوح من صفحات ذينك الكتابين ولا غرو إن اغتر بشيء منهما بعض قاصري النظر فقد جمع جواد قلمه بما تقشعر منه الجلود وترجف منه القلوب فزعا وهو لعنه في ذينك الكتابين كل من سب معاوية ولعنه. كأنه لم يقف على لعن النبي عليه السلام القائد والسائق ومعاوية أحدهما وكأنه لم يبلغه ما بلغ كل الناس تواترا إن عليا عليه السلام كان يقنت ويلعن معاوية وأصحابه ويسبهم وقد فعل فعله كثير من الصحابة والتابعين وجحاجحة أهل البيت النبوي فما أدري أجهل هذا الشيخ أم تجاهل وإني والله مشفق عليه أن يعاتبه الله ورسوله على ذلك. قلت يعاتبه ولم أقل يعاقبه لأني أرجو أن يسامحه الله عن صنيعه فإن الشيخ من أهل الفقه في الدين وسلامة المقصد إلا أن تقليده وتعصبه لمن تقدمه ونظره إلى القضية من وجهة واحدة هما اللذان أقحماه هذا المجال المخيف هو يظن أنه أحسن صنعا (1).

العجب من تكفيرهم من حاربهم الصديق على منع الزكاة مع دعواهم الإجتهاد لمن أكل كل بيت المال 


والعجب كل العجب أن هؤلاء المتمحلين قائلون بكفر الذين حاربوا
(هامش)
(1) جاء في فتاويه الحديثية سئل فيمن قال صاحب العباب حاطب ليل هل يكفر إذ يفهم منه أنه مستهزء به فأجاب به فأجاب بقوله لا كفر ثم قال وإنما الذي يلحقه الذم الشديد والوصف المشعر بأنه جبار عنيد أو شيطان مريد انتهى) فليته قال في أعداء علي السابين له بأشد مما قيل في صاحب العباب في السؤال نحو قوله في الجواب. (*)
ص 53
الصديق رضي الله عنه جازمون بحل سبي نسائهم وذراريهم واغتنام أموالهم على أن طوائف منهم كما لك بن نويرة وقومه بني يربوع وغيرهم من قبائل العرب لم يحكم بردتهم إلا لأنهم امتنعوا عن أداء الزكاة إلى الخليفة وقالوا زكاة اغنيائنا نردها على فقرائنا ولم يجحدوا وجوبها وكانوا يقيمون الصلاة فحق عليهم ما حق بذلك الامتناع ولم يلتمس أحد لهم تأويلا بأنهم ربما كانوا ظانين جواز ذلك لدليل قام عندهم أو لاجتهاد منهم وهذا معاوية لم يمنع الزكاة فقط عن تسليمها إلى الخليفة كما فعلوا بل استولى على أموال بيت مال المسلمين كلها من زكاة وغيرها واصطفى بيضاءها وصفراءها ثم فعل كبائر الأفاعيل المنهى عنها وعثا في الأرض فسادا ثم تجدهم مع هذا كله يتمحلون له بأنه مجتهد وأنه مثاب أيضا قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون رب احكم بيننا وبين قومنا بالحق. لعمر الله إن الحيرة لتغلب على رأي الحكيم في أفعال هؤلاء القوم وما ينسبون معاوية إليه من صلاح النية والاجتهاد والطلب بدم عثمان ونحو ذلك حتى أن العاقل ليسئ بهم الظن مغلوبا على أمره لا يجد من ذلك مخرجا كيف يتصور صلاح النية وهو يقاتل المهاجرين والأنصار وأنى يصح الاجتهاد في مقابلة النص على بغيه بقتل عمار وأين الطلب بدم عثمان من الفساد في الأرض وإرسال السرايا والبعوث إلى كل ناحية للقتل والنهب وقتل الأطفال والضعفاء والنساء وارتكاب العظائم مما لم يجوزه النبي صلى الله عليه وآله حتى مع المشركين.

إرسال معاوية بسر بن أرطأة للفساد في الأرض 


نقل أبو الفرج الأصفهاني بسنده وغيره أن معاوية بن أبي سفيان بعث بسر بن أرطأة بعد تحكيم الحكمين وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ حي وبعث معه جيشا ووجه الضحاك بن قيس الفهري في جيش آخر وضم جيشا آخر إلى رجل من غامد وأمرهم أن يسيروا في البلاد فيقتلوا كل من
ص 54
وجدوه من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه وأن يغيروا على سائر أعماله ويقتلوا أصحابه ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان فمر بسر لذلك على وجهه حتى انتهى إلى المدينة فقتل بها أناسا من أصحاب علي عليه السلام وأهل هواه وهدم بها دورا ومضى إلى مكة وقتل نفرا من آل المهلب ثم إلى السراة فقتل بها من وجد من أصحابه وأتى نجران وقتل عبد الله بن عبد المدان الحارث وابنه وكانا من أصهار ابن العباس عامل علي عليه السلام ثم أتى اليمن وعليها عبيد الله ابن العباس رضي الله عنهما عامل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان غائبا فلم يصادفه بسر ووجد ابنين له صبيين فأخذهما بسر لعنه الله وذبحهما بيده بمدية كانت معه ثم انكفأ راجعا إلى معاوية وفعل مثل ذلك سائر من بعثه معاوية فقصد الغامدي الأنبار فقتل ابن حسان البكري وقتل رجالا كثيرين ونساء من الشيعة (انتهى) قلت: أين يفلت معاوية وبسر كلاهما بعد أن فعلا بالمدينة ما فعلا من الوعيد الشديد الذي جاء عن الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله في حق من كاد أهل المدينة أو أرادهم بسوء أو ظلمهم أو أخافهم وأنى ينجوان من ذلك وبم يستنجيان من غضب الله ولعنته وبأي تأويل يحاول أنصارهما تبريرهما من ذلك فقد روي في الصحيحين وغيرهما عن سعد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء زاد مسلم ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا إذا به الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء وروى النسائي والطبراني عن السائب بن خلاد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فاخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وفي رواية للطبراني قال من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة وغضب عليه ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا وما فعله بسر في المدينة حال كونه
ص 55
عامل معاوية من القتل والتهديد والحلف على المنبر أنه لو لم يمنع لما ترك بالمدينة محتلما مشهورا مذكور لا نطيل به

رجع الكلام إلى عمار بن ياسر وما يقول ويفعل 


وروى أهل السير ومنهم ابن الأثير أن عمارا قال لعمرو بن العاص يا عمرو لقد بعت دينك بمصر فقال لا ولكن اطلب بدم عثمان فال أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله (وأنا أشهد أن أبا اليقظان صادق ولعنة الله على الكاذب) وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك لقد قاتلت صاحب هذه الراية (يعني عليا) ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهذه الرابعة (انتهى). وما لزم عمرو من كلام عمار فهو لمعاوية ألزم لأنه شر منه وهو الراشي له بوعده تولية مصر والمستعين به في الحيل على الله وعلى المؤمنين فقوم هذا حالهم وهذا كلام عمار وأمثاله فيهم يقال عنهم إنهم مجتهدون لا والله ثم لا والله ليسوا بطالبي حق بل لم يزل أمرهم على ما كانوا عليه في الجاهلية من محادتهم لله ورسوله لا يحبهم من خامر الإيمان قلبه ولا يناضل عنهم من أخلص لله تعالى إسلامه لأنهم خانوا الله ورسوله والمؤمنين ولا تكن للخائنين خصيما أخرج البزار بسند معتمد عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه كيف أنتم وقد خرج أهل دينكم يضرب بعضهم رقاب بعض قالوا فما تأمرنا قال: انظروا الفرقة التي تدعو إلى أمر علي فالزموها فإنها على الحق. (ولابن أبي شيبة) بسند صحيح على شرط الأئمة الستة عن أبي الرضى سمعت عمارا يوم صفين يقول من سره أن تكتنفه الحور العين فليتقدم بين الصفين محتسبا. وله بسند معتمد أنه كان يقول بين الصفين بأعلى صوته روحوا إلى الجنة قد تزينت الحور العين فأني لأرى صفا ليضربنكم ضربا يرتاب منه المبطلون والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفنا أنا على الحق وهم على الضلال وقد روى ابن الأثير حديث عمار تقتله الفئة الباغية
ص 56
وزاد فيه ما لفظه: الناكبة عن الحق (انتهى)

فرح معاوية بقتل ذي الكلاع وعمار مع 


وقال: ولما روى عمرو بن العاص هذا الحديث لذي الكلاع قال ذو الكلاع ما هذا ويحك (وكان ذو الكلاع وعامة أهل الشام قد غرهم معاوية ووزراؤه وكذبوا عليهم واستغووهم) فيقول عمرو أنه سيرجع إلينا فقتل ذو الكلاع قبل عمار (مع الفئة الباغية) وقتل عمار رحمه الله بعد. قال ابن الأثير فقال عمرو لمعاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام إلى علي (انتهى بحروفه). فانظر أيها المنصف إلى هؤلاء المدلسين المغررين الفرحين بما يسئ رسول الله صلى الله عليه وآله ويسئ كل صادق في إيمانه فقد فرحوا قدما بقتل عبيدة وحمزة ثم بقتل عمار وأنصار أهل البيت والدين وسمموا الحسن بن علي عليهما السلام وكبروا شماتة لموته وهكذا أعمالهم فحالتهم في الجاهلية والإسلام متشابهة ولا قوة إلا بالله لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا وواعجبا من أقوام بين ظهرانينا الآن يدخلون المساءة على النبي صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته وصالحي أمته في قبورهم بمدح من يلعنهم ويوصل إليهم كل أذى ويشاركون بذلك معاوية في قبائحه التي يتمنى هو الخروج منها مع أنهم لا ينالون الآن من معاوية وذويه ذرة من دنياه هذا والله هو الخسران المبين أنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ولكنه استحكم فيهم داء التقليد المحض وحسن الظن الضار ففترت حواسهم وأصابهم تخدير مهلك فهم لا يحسون ولا يشعرون وإذا ذكروا لا يذكرون ويعتقدون أن كل ما خالف ما جمدا عليه باطل فهان عليهم مشاركة طاغية هذه الأمة بنصرهم له ومدحه وتعظيمه وتسويده وستر فواقره يكابرون في الحق ويصمون أسماعهم عنه ويعرضون عن الحجج الواضحة أن دعوتهم إلى سماع أدلة كلام الله ورسوله لا يسمعون أما قرأوا قول الله تعالى: إنهم آلفوا آبائهم ضالين فهم
ص 57
على آثارهم يهرعون. وهناك طوائف من علماء السوء يتغافلون عن إظهار الحق وهم يعرفونه فيموهون ويغالطون ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون كل ذلك خوفا من أن ينبزهم المقلدون بأنهم شيعة أو رافضة حرصا على جاه موهوم زائل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه قال ابن القيم في إعلام الموقعين نقلا عن شيخه شيخ الإسلام بن تيمية من له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وآله وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان (انتهى بالحروف)

إقرار معاوية وعمرو على أنهما على باطل 


إن معاوية وعمرو ومن شاكلهما يقرون ويعترفون في كثير من المواطن بأنهم على غير حق وأنهم إنما يقاتلون للدنيا ولكن أنصارهم يأبون إلا نسبتهم إلى الحق وتزكية أعمالهم بادعاء الاجتهاد لهم وإثابتهم من الله على بغيهم وعنادهم روى المسعودي رحمه الله عندما ذكر قصة قتل اللخميين اللذين أطمعهما معاوية بالمال أن قتلا العباس بن ربيعة الهاشمي في يوم من أيام صفين فخرجا فقتلهما الإمام علي عليه السلام قال: رحمه الله ونما الخبر إلى معاوية فقال قبح الله اللجاج إنه لعقور ما ركبته قط إلا خذلت فقال عمرو بن العاص المخذول والله اللخميان والمغرور من غررته لا أنت المخذول قال اسكت أيها الرجال فليس هذا من شأنك قال: وإن لم يكن رحم الله اللخميين ولا أراه يفعل قال ذلك والله أضيق لحجتك واخسر لصفقتك قال قد علمت ذلك ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأننا على ضده فقال معاوية مصر والله أعمتك ولولا مصر لألفيتك بصيرا ثم ضحك معاوية ضحكا ذهب به كل مذهب قال: مم تضحك يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك قال أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت عليا وإبدائك سوأتك أما والله يا عمرو لقد واقعت
ص 58
المنايا ورأيت الموت عيانا ولو شاء لقتلك ولكن أبى ابن أبي طالب في قتلك إلا تكرما فقال. عمر وأما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فاحولت عيناك وبدأ سحرك وبدأ منك ما أكره ذكره لك من نفسك فاضحك أو دع (انتهى بالحرف) وذكره البيهقي بنحو هذا في المحاسن والمساوي وذكر أهل السير أن عمروا قال لابنه عبد الله يوم صفين أي عبد الله انظر أين ترى عليا قال أراه في تلك الكتيبة القتماء قال الله در ابن عمر وابن مالك فقال له أي أبت فما يمنعك إذ غبطتهم أن أترجع فقال يا بني أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة أدميتها.

 حديث إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه 


أخرج ابن عدي عن أبي سعيد مرفوعا إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه وأخرجه العقيلي عن الحسن بلفظ إذا رأيتم معاوية على المنبر فاقتلوه ورواه سفيان بن محمد عن منصور بن سلمة عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر مرفوعا به قالوا هذا الحديث موضوع لأن في رجال أسانيده من لا يقبل ومن هو متهم وقالوا لا يصح من جهة المعنى أيضا لأن الأمة رأوا معاوية يخطب على منبر النبي صلى الله عليه وآله ولم ينكروا عليه ذلك ولا يجوز أن يقال إن الصحابة ارتدت بعد نبيها صلى الله عليه وآله وخالفت أمره نعوذ بالله من الخذلان هذا قول من قال: بوضع هذا الحديث. قلت أما دعوى وضعه من حيث رجال أسانيده وضعفهم فليس لنا فيه كلام لأن القول ما قالوه وليسوا بمتهمين في ذلك. وأما دعوى فساده من حيث المعنى فمردودة لأن عدم الانكار عليه وعدم قتله لا يستلزم عصيان من اطلع عليه من الصحابة فضلا عن استلزام ارتداده كما زعموا بل هم معذورون في عدم قتله لعجز كل منهم عن ذلك ولتيقنهم عدم قبوله الحق مهما أنكروا عليه باللسان بل تخشى منه فتنة عظيمة كيف وهم لا يقدرون على إزالة منكر واحد من منكراته التي يرتكبها بمرأى منهم ومسمع فضلا عن قدرة أحد منهم على قتله فلا لزوم لما ذكروا ولا فساد
ص 59
من جهة المعنى على أنه لو صح ما ذكروه من الاستلزام للزمهم ذلك أيضا بحديث مسلم إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما فهذا الحديث كالصريح في الأمر بقتل معاوية ومؤدي الحديث الذي ذكروا أنه موضوع في الأمر بقتل واحد إذ هو منطبق تماما على معاوية فإنه أول من بويع له بالخلافة بالشام والخليفة الحق موجود والصحابة معذورون بعدم استطاعتهم لأنه متصحن بالآلاف المؤلفة من جنود الشام الذين لم يفرق كثير منهم بين الجمل والناقة والذين يعتقد الكثير منهم - بتغرير معاوية - إنه أقرب قريب إلى رسول الله (ص) وأصرح من حديث مسلم في هذا المعنى ما أخرجه أحمد في مسنده من قاتل عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان. وإنما نبهت على هذا وبينته لأني رأيت كثيرا من أنصار معاوية قاموا وقعدوا وشددوا النكير والسباب والحنق على ناقلي ذلك الحديث استعظاما منهم للأمر بقتل معاوية الذي أمر الله في القرآن بقتاله وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث مسلم بقتله. وقد أجمع أهل السنة والشيعة على وجوب قتال معاوية علينا لو حضرناه وإن قتله إذ ذاك حسنة وفضيلة يثاب فاعلها عليها. قال أبو حنيفة رحمه الله أتدرون لم يبغضنا أهل الشام قالوا لا قال: لأنا نعتقد أن لو حضرنا عسكر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لكنا نعين عليا على معاوية وتقاتل معاوية لأجل علي فلذلك لا يحبوننا كذا في التمهيد في بيان التوحيد لأبي شكور السلمي. وقد كابر الشيخ ابن حجر في تطهير الجنان مكابرة عظيمة لا تليق بذوي العلم والإنصاف عند ذكره فساد ذلك الحديث من جهة المعنى حتى زعم هناك أن معاوية احتال على سيدنا علي كرم الله وجهه حتى خلع نفسه عن الخلافة بخلع نائبه أبو موسى الأشعري عن الخلافة له عند تحكيمه وتحكيم عمرو بن العاص وزعم أيضا أن الصحابة كلهم اتفقوا على أنه الخليفة الحق وأنه لم يطعن عليه أحد من أعدائه فضلا عن أصدقائه